برميل البارود وعود الكبريت

بقلم هشام صادق

الصفحة رقم 4
ما حدث للمصريين في كنيسة القديسين بسيدي بشر بالإسكندرية في الدقائق الأولي من استقبالهم للعام الميلادي الجديد 2011، وهم يبتهلون إلي الله في صلواتهم بهذه المناسبة، ليس مجرد حادث أليم ومفزع، وإنما هو انفجار زلزل أركان هذا الوطن الذي تمتد جذوره التاريخية إلي آلاف السنين، وكأننا في عراق آخر لم يعد يعرف مصيره إلا الله.
وبقدر قوة الضربة الإرهابية كان رد فعلها في الشارع المصري. فقد جاءت غضبة الشباب القبطي معبرة عن واقع ما أصابهم من ألم، كما أكدت مشاعر المسلمين إدراكهم لخطورة ما حدث. أما النظام السياسي فقد أصابه الشلل في البداية من فرط المفاجأة، رغم أن المتابع لتسلسل الأحداث في الربع قرن الأخير كان يعلم، أو مفروض فيه أن يعلم، أن ثقافة التطرف الديني التي سادت خلال هذه الفترة سوف تؤدي بالضرورة إلي مثل هذه الجرائم الإرهابية، والتي يصعب تلافيها ما دمنا نتجاهل حقيقة الواقع الثقافي السائد، ونتقاعس عن التصدي لتغييره، اكتفاء بالكلمات الرسمية البلهاء عن وحدتنا الوطنية التي كانت، أو بعض القبلات المتبادلة بين شيخ هنا وقس هناك.
وقد أدي هذا التراخي في مواجهة ثقافة التطرف الديني وإزالة أسبابها المعروفة إلي شرخ غائر في البناء الاجتماعي المصري، وما ترتب عليه من احتقان طائفي، هو الذي قصدته ببرميل البارود الذي نجلس عليه جميعا، والذي لا يحتاج لانفجاره إلي أكثر من عود كبريت قد يشعله أحدهم هنا أو هناك ولهذا السبب أو ذاك.
ولهذا يبدو لي من الغباء السياسي أن نتبني سياسة للمواجهة تقتصر علي مجرد منع الآخرين من إشعال عود الكبريت أو الإسراع بتقديم من أشعله للمحاكمة. فمثل هذه المعالجة الأمنية لا تكفي لمواجهة المشكلة، لأننا لسنا بصدد جريمة عادية من جرائم القانون العام مهما بلغت أهميتها مثل القتل العمد. وإنما نحن أمام جريمة تتعلق بكيان المجتمع وأسس وجوده،أي جريمة تتعلق بصميم اعتبارات الأمن القومي التي لا يكفي في شأنها مجرد توقيع العقاب علي مرتكبيها، والحال أن آثارها تطال وجود الدولة ذاتها، وهو ما يقتضي علاجا وقائيا بالدرجة الأولي يحول دون وقوع مثل هذه الجرائم أصلا، أو في القليل يخفف من أهم آثارها الضارة فيما لو وقعت بالفعل.
ولا يكون ذلك فيما نحن بصدده إلا بإزالة مسببات انتشار ثقافة التطرف في المجتمع، وبالتالي إزالة برميل البارود الذي نجلس عليه، وتلك مهمة ثقافية طويلة الأمد سبق أن نبهنا مع غيرنا إلي ضرورة البدء بها اليوم قبل الغد. فهو ملف ثقافي بالدرجة الأولي له أربابه والمتخصصون فيه، والذين ليس من بينهم بالقطع رجال الأمن المسئولين بكل آسف عن هذا الملف منذ عشرات السنين.
وليس معني ذلك أن الأمن لا شأن له بالموضوع، وإنما يختص الأمن بكل ما يتعلق بالجريمة الإرهابية بدءا من مقدماتها والإعداد لها وانتهاء بارتكابها الفعلي، فهو المسئول عن تعقب حاملي عود الكبريت في المثال الرمزي الذي ضربناه والحيلولة دون إشعالهم للنار، أو ملاحقتهم إذا أشعلوها بالفعل، وهو اشعال لن يؤدي إلي أضرار مجتمعية خطيرة إذا كنا قد نجحنا في إزالة برميل البارود الذي يرمز إلي الاحتقان الطائفي، لأن النار يسهل اخمادها إذا اشتعلت بعيدا عن البارود.
وهكذا يبدو اشتعال عود الكبريت ملفا أمنيا بالضرورة، بينما تعد إزالة برميل البارود المتمثل في الاحتقان الطائفي الناجم عن ثقافة التطرف ملفا ثقافيا بامتياز.
والقضاء علي ثقافة التطرف علي هذا النحو يقتضي الاعتراف بالتقصير الذي أدي إلي انتشار هذه الثقافة. وقد كان تقصير النظام السياسي في هذا المجال واضحا منذ منتصف السبعينيات حينما أعاد هذا النظام إحياء جماعات الإسلام السياسي وتعاون معها للقضاء علي قوي اليسار الوطني في اطار صفقة سياسية بائسة، كان أول ضحاياها هو الرئيس السادات نفسه في حادث المنصة الشهير.
بل إن هذا النظام قد اعتنق في أعقاب الانفتاح الاقتصادي عام 1974 سياسيات أدت إلي اتساع هوة الفوارق بين الطبقات، مما أدي إلي هجرة المصريين إلي دول الخليج بحثا عن الرزق، ليعودوا إلينا محملين بثقافات دينية متطرفة لم نعرفها من قبل.
وقد ولدت أجيال في رحاب هذه الثقافة تجاوزات أعمارها الآن سن الثلاثين، ناهيك عن تراجع السياسات الحكومية في ذلك الوقت إلي حد السماح لشباب بالتطوع في صفوف الإرهابيين من العرب الأفغان الذين مولتهم الولايات المتحدة الأمريكية لتحرير أفغانستان من كفر والحاد الاستعمار السوفيتي؟!، في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل.. وعاد المقاتلون المصريون لنا بعد ذلك بفكرهم المتطرف وتدريبهم القتالي الذي مكنهم من ارتكاب العديد من الجرائم الارهابية علي أرض الوطن بوصفهم أعضاء في بعض جماعات التطرف الديني.
ولم يستفد النظام السياسي المصري في المرحلة التالية لرحيل السادات من هذه التجارب المؤسفة، واستمر في السكوت عن الممارسات الطائفية لبعض تجمعات الإسلام السياسي حتي أدركت أهدافها في نشر ثقافة التطرف عن طريق خطابها الديني الذي تغلغل بين الشباب من خلال دور العبادة والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام.
ولا شك أن التصدي لإصلاح هذه الأوضاع التي أدت إلي الاحتقان الطائفي الذي نعانيه في العقود الثلاثة الماضية هي مهمة ثقافية شاقة لن تؤتي ثمارها المرجوة قبل مرور عقد أو عقدين من الزمان. ذلك أن الإصلاح الثقافي يجب أن يبدأ بمناهج التعليم ونوعية المدرسين القائمين عليه خاصة في المرحلة العمرية ما بين 6-12 سنة، بالإضافة إلي الاهتمام بتغيير الخطاب الديني في دور العبادة ووسائل الإعلام، ناهيك عن التعديلات التشريعية المتطلبة لترسيخ مبدأ المساواة الدستورية بين المصريين بصرف النظر عن دياناتهم، مثل مشروع قانون تنظيم دور العبادة ومشروع القانون المنظم للأحوال الشخصية في مصر خاصة فيما يتعلق بالقانون الواجب التطبيق علي الزواج المبرم بين غير المسلمين المختلفين في الديانة أو الملة.
بل إن الأمر يجب أن يتخطي التنظيم القانوني في هذا المجال ليطال أيضا الممارسات الإدارية والسياسية فيما يتعلق بالتعيين في الوظائف العامة وضرورة مراعاة مبدأ تكافؤ الفرص لاسيما في المواقع ذات الحساسية الخاصة.
وإذا كانت ظروف العولمة قد أدت إلي ضعف الدولة القومية التي أصابها الوهن حتي عجزت عن حماية مواطنيها، فقد ترتب علي هذه الأوضاع ضعف الانتماء الوطني والقومي ورجوع الأفراد بحكم رد الفعل إلي دوائر الانتماء الأخري مثل الدين، حيث يلجأ المسيحي إلي كنيسته طلبا للحماية، كما يستسلم المسلم إلي تجمعاته الدينية التي لا تتردد في إعانته علي فقره في ظل دولة رخوة تنحاز إلي الأغنياء.
وعلي هذا النحو أدت البطالة وغياب العدالة الاجتماعية إلي مزيد من التمزق الطائفي ساعد عليه أيضا تراجع الأمل في ديمقراطية حقيقية تسفر عن تداول شرعي للسلطة في ظل دولة مدنية لا تعرف التفرقة بين الأديان، مما زاد من حدة الاحتقان الطائفي حتي أصبحنا نعيش فوق برميل من البارود ينتظر عود الكبريت الذي يشعله.
وقد جاء بكل أسف من أشعله في حادث كنيسة القديسين الأخير، واهتمت أجهزة الأمن بالبحث عن الجناة، وهو واجبها الذي لا نتشكك في قدرتها علي أدائه. وأيا ما كانت النتائج التي ستسفر عنها التحقيقات والتي ستكشف عن حقيقة من أشعل عود الكبريت، هل هم متطرفون من الداخل أو أن هؤلاء مجرد أدوات لتنظيمات خارجية تابعة لما يسمي بتنظيم القاعدة أو الموساد أو غيرهما، فإن الاحتقان الطائفي الذي صنعناه بأيدينا، أو برميل البارود الذي نجلس عليه جميعا، كان في انتظار أي شرارة تؤدي إلي انفجاره.
وبدلا من الاعتراف بمسئوليتنا عن التقاعس في مواجهة ثقافة التطرف خلال سنوات طوال اكتفينا بإطلاق التصريحات الرسمية التي تنكر الطابع الطائفي للحادث الأخير بدعوي وقوعه أيضا في مواجهة أحد المساجد ووجود بعض المسلمين من بين الجرحي. ومثل هذه القراءة الخاطئة لواقع الحال لا تليق بمن يتمسكون بإرادتهم في التغيير والإصلاح، والذين لا يليق بهم أيضا أن يحدثونا عن الأعداء الذين يتربصون بوحدتنا الوطنية قبل أن يؤدوا واجبهم في إعادة بناء ثقافة هذه الوحدة بعد أن اهتزت أركانها نتيجة لسياساتهم الخاطئة.
لقد تركنا ملف الوحدة الوطنية لسنوات طوال في أيدي الأجهزة الأمنية التي أنصب اهتمامها الأول علي عود الكبريت وملاحقة من يقومون باشعاله دون اهتمام مماثل ببرميل البارود، أي بثقافة التطرف التي أخذت في النمو والانتشار تحت بصرها دون بذل أي محاولات جادة لعلاج هذه المشكلة، اكتفاء بما يسمي بالجلسات العرفية وغيرها من المواءمات السياسية التي لم تقدم الحل بقدر ما كشفت عن ضعف الدولة ورخاوتها حتي وقع ما وقع من أحداث نتيجة لهذه الأخطاء التي يصعب أن نلوم عليها جهازا أمنيا غير مؤهل بحكم تكوينه وطبيعة تخصصه بملف يتسم بطابعه الثقافي بالدرجة الأولي.
والبداية الصحيحة هي إحالة هذا الملف الثقافي إلي أربابه دون انتظار أو تباطؤ لعلنا نجني الثمار بعد عقد أو عقدين في ظل دولة مدنية ديمقراطية لا تعرف التفرقة بين مواطنيها علي أساس الثروة أو الجنس أو الدين.
وإذا كان يصعب إرساء مثل هذه الثقافة المجتمعية بدون إرادة سياسية في الإصلاح، وفي رحاب دولة أمنية مازالت تقاوم التعايش مع أفكار مستمدة من حقوق الإنسان وسيادة القانون، فلعل مشاعر جميع المصريين في أعقاب حادث كنيسة القديسين الأخيرة، واحساسهم بالخطر، تكون دافعا هذه المرة علي اتخاذ الخطوة الأولي علي الطريق الصحيح.